قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « المزاح استدراج من الشيطان واختلاع من الهوى ». وعن علي : ما مزح أحد إلا مج (1) الله من عقله مجة. وعنه : إياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكًا
، وإن حكيت ذلك عن غيرك. وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى عماله : امنعوا الناس من المزاح فإنه يذهب المروءة ، ويوغر الصدور. وقال بعض الحكماء : تجنب سوء المزاح ، ونكد الهزل ، فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد غمٍّ. وقال آخر: لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح. وعن محمد بن المنكدر قال : قالت لي أمي : لا تمازح الصبيان تهن عندهم. وخرج أعرابي بالليل فإذا بجارية جميلة
، فراودها ، فقالت : أما لك زاجر من عقلك إذا لم يكن لك واعظ من دينك ؟ فقال : والله ما يرانا إلا الكواكب ، فقالت له : يا هذا وأين مكوكبها ؟ فأخجله كلامها فقال لها : إنما كنت مازحًا ، فقالت :
فإيَّــاك إيَّـــاكَ المــزاحَ فـإنَّــه ... يُجرى (2) عليك الطفلَ والرجلَ النذلا
ويُذهِـبُ ماءَ الوجـه بعد بهائه ... ويــورثُ بـعـــد الـعــزِّ صـاحـبــه ذُلاً
وقال الأحنف : كثرة الضحك تذهب الهيبة ، وكثرة المزاح تذهب المروءة ، ومن لزم شيئًا عرف به.
ومما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم : أنهم كانوا يتحادثون ويتناشدون الأشعار، فإذا جاء ذكر الله انقلبت حماليقهم (3) كأنهم لم يعرفوا أحدًا.
فيما جاء في الترخيص في المزاح والبسط والتنعم
لا بأس بالمزاح ما لم يكن سفهًا ، والله تعالى وعد في اللمم بالتجاوز والعفو فقال : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَ اللَّمَمَ} (4) وقيل : إن يحيى بن زكريا لقي عيسى عليهما الصلاة والسلام فقال : مالي أراك لاهيًا كأنك آمن ، فقال له عيسى : مالي أراك عابسًا كأنك آيس ، فقالا : لا نبرحُ حتى ينزل علينا الوحي. فأوحى الله إليهما أن أحبكما إليَّ أحسنكما ظنًا بي ... ويروى :أن أحبكما إليَّ الطلق البسَّام. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجارية : خلقني خالق الخير وخلقك خالق الشرّ فبكت الجارية. فقال عمر: لا بأس عليك ؛ فإن الله خالق الخير والشر.
قال الشاعر:
إنَّ الصديقَ يريـدُ بَسَـط مَازحًـا .. فـإذا رأى منـك الملالـةَ يقصـرُ
وتـرَى العَــدوَّ إذا تــيـقــَن أنــه ... يؤذيــك بـالمـزحِ العنيـفِ يكثـرُ
وكان رسولُ الله صلى الله عليه و سلم يمزح ، ولا يقول إلاَّ حقًا. فمن مزحه صلى الله عليه و سلم أنه جاء رجل فقال : يا رسول الله احملني على جمل ، فقال عليه الصلاة والسلام : « لا أحملك إلا على ولد الناقة » ، فقال : يا رسول الله ، إنه لا يطيقني ، فقال له الناس: ويحك هل الجمل إلا ولد الناقة. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لامرأة من الأنصار:« الحقي زوجك ففي عينيه بياض » فسعت إلى زوجها مرعوبة فقال لها : ما دهاك ؟ قالت : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال لي : إن في عينيك بياضا. فقال : نعم والله وسوادًا . وأتته أيضًا عجوز أنصارية فقالت : يا رسول الله ، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال لها : « يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز». فولت المرأة تبكي ، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال لها : أما قرأت قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا}(5) .
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سابقتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم فسبقته فلما كثر لحمي سابقته فسبقني فضرب بكتفي وقال : « هذه بتلك » . وعنها أيضًا قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل وأنا ألعب مع صويحباتي ولا يعيب عليّ.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- مج : اغترف . (2)- يُجرى : يُجرئ.
(3)- الحِملاق : باطن الجفن. (4)- سورة النجم : 32.
(5)- سورة الواقعة : 35 – 37 .